من يحق له الاجتهاد، والكلام في النوازل وكبرى قضايا الأمة-عبد الحميد العربي الجزائري

الموضوع في 'المنبر الإسلامي العام' بواسطة الأندلسي, بتاريخ ‏7 ديسمبر 2009.

  1. الأندلسي

    الأندلسي غفر الله له ولوالديه طاقم الإدارة

    من يحق له الاجتهاد، والكلام في النوازلة، وكبرى قضايا الأمة
    عبد الحميد العربي الجزائري
    إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسول الله.
    أما بعد:
    إن المتتبع لحال الطلاب الخائضين في كبرى قضايا الأمة يجدهم لم يأتوا كثيرا من العلم الشرعي، والفطنة بفقه واقعهم المعيش، ولهذا تسرب عن فتاويهم شيء من اللغط والغلط، ووقع بسبب قصورهم انحراف منهجي، والعجيب أنك تجد الحدث يتكلم في مسائل لو اجتمع لها حذاق العالم لوضعوا أكفهم على ذقونهم من الحيرة، وبالمقابل يقتحم هذا الحدث نوازل الأمة وجهله يصحبه، مسلطا عليها اجتهاده المنجلي، مولدا حيرة إلى حيرة الأمة وضعفا إلى ضعفها، وصدق أبو حصين الأسدي حين قال كما في أدب المفتي والمستفتي(ص76): (إن أحدهم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر).
    وأخرج أبو نعيم في الحلية(6/323) قال: حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا موسى بن هارون ثنا نصر بن داود بن طوق قال: سمعت سعيد بن سليمان قال: (قلما سمعت مالكا يفتي بشيء إلا تلا هذه الآية: ((إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين)).
    فهذا الإمام مالك لا يجزم بقوله في النوازل وهو من أهل الاجتهاد والفتوى والدراية، ومن حذاق العلماء وكبارهم، أما حال بعض الطلبة على العكس من هذا، فتجده يتجاسر في مسائل الخلاف الشديد التي يعيا عنها كبار العلماء، ويتكلم في قضايا عويصة ومعقدة وشائكة مستأنسا بنقول استفادها من غيره دون فقه لمعناها، بل تجده يجزم بصحة ما ذهب إليه مع أن كبار العلماء قد أعيتهم هذه المسألة وأيقظت مضاجعهم، بل تراه إذا نُبِّه إلى خطورة الباب الذي ولجه على قصور ظاهر قال: إن دليلي في المسألة قاطع، والنقول التي نثرتها كافية للعاقل، وفي الحقيقة أنه قاس واقعا على واقع مع اختلاف العلل والوقائع، وهو ليس من أهل الاستقراء والقياس وخاصة في ما يتعلق بدماء الناس.
    فالخوض في قضايا الأمة العويصة كقضية فلسطين الجريحة، وقضية العراق الضحية من طرف طلاب العلم لا يحلّ المشكل، ولا يهدي الجاهل، ولا يرفع الغمة عن الأمة، بل نخشى أن يزيد إلى الطينة بلة، والجرح غورا، والعقول طيشا وحيرة، وليس على الطالب ولو كان متمكنا حرجا إذا أعطى القوس باريها.
    إن المتتبع لصنيع العلماء قد يجدهم يتوقفون في بعض المسائل وهم من أهل الاجتهاد، وهذا لا ينقص من قدرهم ومنزلتهم شيئا، بل هذا يدل على ورعهم وتقواهم.
    قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في الاعلام(4/178) : (فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم، وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل، وكثيرا ما يسأل الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره من الأئمة عن مسألة فيقول: فيها قولان، أو قد اختلفوا فيها، وهذا كثيرا في أجوبة الإمام أحمد لسعة علمه وورعه، وهو كثير في كلام الشافعي رضي الله عنه، يذكر المسألة ثم يقول فيها قولان).
    وها أنا أذكر نفسي وغيري ببعض ضوابط الاجتهاد حتى لا تختلط المهام، ويلتبس العالم بطالب العلم، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
    معناه لغة (1): استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه، حيث يُرجى وجوده فيه، أو حيث يوقن وجوده فيه.
    والجُهد _ بضم الجيم _ الطاقة والقوة، تقول: هذا جهدي، أي طاقتي وقوتي، والجَهد _ بفتح الجيم _ سوء الحال وضيقها تقول: القوم في جهد أي في سوء حال.
    أما حقيقته الشرعية: هو استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم(2).
    وقال ابن حجر: اصطلاحاً: بذل الوسع للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي.
    و أما المجتهد فقال في حقه العلامة الشوكاني في الإرشاد: ((هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي))(3).
    والاجتهاد يقع على ثلاثة معان كما قال المتكلم أبو بكر الرازي:
    أحدهما: القياس الشرعي، لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم، لجواز وجودها خالية عنه، لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب، فلذلك كان طريقه الاجتهاد.
    الثاني: ما يغلب في الظن من غير علة. كالاجتهاد في الوقت، والقبلة، والتقويم.
    الثالث: الاستدلال بالأصول (4).
    وقد اشترط بعض علماء الأصول شروطاً إذا تحققت في الفقيه سُمّي مجتهداً.
    1-: أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة، فإن قصّر في أحدهما لم يكن مجتهداً ولا يجوز له الاجتهاد.
    2- وأن يكون عارفاً بمسائل الإجماع وفتاوى الصحابة،
    3- وأن يكون عالماً بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه.
    4- وأن يكون عالماً بعلم أصول الفقه فإنه فسطاط الاجتهاد فمن قصَّر في هذا الفن عسر عليه الاجتهاد، ووقع في الخبط والخلط.
    5- وأن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ.
    6- وأن يكون عالماً بمقاصد الأحكام في الشريعة الإسلامية وأنها رحمة بالعباد، ورعاية لمصالحهم بمراتبها الثلاثة: الضروريات، ثم الحاجيات ثم التحسينات، وقد جمعها في نسق جميل الشاطبي في كتابه الموافقات.فاطلبها فيه مع الحذر من أشعريته.
    7-أن يكون عالما وخبيرا بواقعه وإن غاب عنه شيء استفاده من أقرانه والثقات من طلابه، وقد قص الله علينا خبر نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام، وما منّ الله عليه من معرفة أحوال الإنس والجن والطير والنمل، وجعل ذلك من جملة فضائله، قال تعالى: (وورث سليمان داود، وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين، وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون).
    قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (وقد أعطاه الله من الفهم ومعرفة أحوال الآدميين ما قص الله علينا نبأه في هذه القصة).
    والعلماء هم مرجع الناس في الأحكام الشرعية كما قال تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وقد أمر الله بالرجوع إليهم أيضا في الأمور المهمة والمعقدة، وما يتعلق بمصالح المؤمنين في معاشهم ودنياهم، وما يستجد من النوازل الجديدة، وما يحصل لهم من فتن وشرور كما هو الحال في العراق، قال تعالى: ((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)).
    ولا يتحقق الحكم المنضبط، والموافق لروح الشريعة إلا بمعرفة الواقع على ما هو عليه، وهذا واجب أهل الفتوى والاجتهاد، الذين تحملوا فرض الكفاية عن سائر الأمة، فكما أنه لابد للمجتهد من فقه في كليات الأحكام، فكذلك ينبغي أن يكون فقيها في أحكام الحوادث الكلية و الوقائع، وأحوال الناس.
    قال العلامة السعدي في خلاصة تفسيره(ص198): (فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية، والعلم بصورة القضية المحكوم بها، وكيفية ادخالها في الأحكام الشرعية الكلية، فالجاهل بواحدة من هذه الأمور لا يحل له الإقدام على الحكم بين الناس).
    وهذه منقبة في الفقيه راصد النوازل، وقد حصل الثناء لكثير من الفقهاء لما كانت هذه صفتهم.
    قال القاضي عياض في شأن خلف المعلم: (كان عالما بنوازل الأحكام).
    وقال الحافظ ابن حجر ممتدحا شيخه شهاب الدين أبا هاشم الظاهر المعروف بابن البرهان كما في المجمع المؤسس: (وكان كثير الإنذار لكثير مما وقع من الفتن والشرور، لما جبل عليه من الاطلاع على أحوال الناس).
    ذكرت هذا الفصل لحاجة المجتهد إليه لا أنه أصل مستقل بنفسه له تخصص، ورجال مميزون، لأن ناسا من جلدتنا أوغلوا في هذا الباب، وأفرطوا فيه، وفرطوا في العلم الشرعي، وأغرقوا في قراءة الصحف والمجلات، والصمود أمام شاشات التلفزيون، ووثقوا بما فيها من تخرصات، وأباطيل، وجعلوها بمنزلة الدلائل والبينات، والحجج الواضحات، وصاحوا على رؤوس الخلائق أن لهم اختصاصا بهذا الفن كما هو حال ناصر العمر وسفر الحوالي ومن تأثر بهم من المساكين، والمعوجين منهجيا، وذهنيا والله المستعان.
    باب تجزؤ الاجتهاد
    فليس من شروط الاجتهاد في مسألة بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل بل متى علم أدلة المسألة الواحدة، وطرق النظر فيها، فهو مجتهد وإن جهل حكم غيرها ما لم تكن مرتبطة بها . وهو ما صوّبه ابن القيم (5) رحمه الله .
    باب لا يجوز إطلاق حكم الله على مسائل الاجتهاد إلا ما علم حكم الله فيه يقينا
    قال ابن القيم رحمه الله عند الحديث عن حديث بُريدة رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم رقم ( 73 ) وفيه (( .. فإن سألوك على أن تنـزلهم على حكم الله فلا تنـزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ؟ )) (فيه حجة ظاهرة على أنه لا يسوغ إطلاق حكم الله على ما لا يعلم العبد أن الله حكم به يقيناً من مسائل الاجتهاد، كما قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم كذا، فيقول الله له: كذبت لم أُحل كذا ولم أحرّمه))(6).
    باب لا اجتهاد مع نص
    قال تعالى:  وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً. وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إنّ الله سميع
    عليم. وقال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً.
    وقال تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون  وأنكر جل وعلا على من حاجّ في دينه بما ليس له به علم فقال  ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم . فلمَ تحاجون في ما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
    أما السنة فما جاء من حديث ابن عبّاس، أنّ هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن السّحْماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البينة وإلا حدّ في ظهرك )) فذكر حديث اللعان ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((أبصروها، فإن جاءت به أكمل العينين سابغ الأليتين خَدَلّج السّاقين فهو لشريك بن السّحماء)) فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا ما مضى من كتاب الله عز وجل لكان لنا ولها شأن))(7).
    قال ابن القيم رحمه الله: ((لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" يريد والله ورسوله أعلم بكتاب الله، قوله تعالى: يدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله. ويريد "بالشأن " والله أعلم أنه كان يحدُها لمشابهة ولدها للرجل الذي رُميت به، ولكن كتاب الله فصلَ الحكومة، وأسقط كل قول وراءه ولم يبق للاجتهاد بعده موقع ))(8).
    وعن سعيد بن جُبير قال: لم يفرق مُصعب _ ابن الزبير _ بين المتلاعنين، قال سعيد: فذكر ذلك لعبد الله ابن عمر فقال: فرق نبيُ الله بين أخوي بني العجلان(9).
    قلـت: لم يعبأ ابن عمر رضي الله عنهما باجتهاد مصعب بن الزبير في مقابل النص، وكان زيد بن ثابت لا يرى للحائض أن تنفر حتى تطوف طواف الوداع فرد ابن عباس اجتهاده بالنص.
    عن طاووس قال: كنت مع ابن عباس، إذ قال- قال زيد بن ثابت: تفتى أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت ؟ فقال له ابن عباس:إما لا فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت(10).
    قال ابن القيم رحمه الله بعد ما ذكره جملة طيبة من آثار السلف في ترك الاجتهاد مع النص:
    ((وهذا هو الواجب على كل مسلم، إذ اجتهاد الرأي إنما يُباح للمضطر كما تباح له الميتة والدم عند الضرورة، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ))(11).
    باب الحق واحد في المسائل الاجتهادية للمصيب أجران وللمخطئ أجر
    إن المجتهدين قسمان: إما مصيب مأجور مرتين وإما مخطئ.
    والمخطئ قسمان: مخطئ معذور مأجور مرة. وهو الذي أداه اجتهاده إلى أنه على حق عنده بعد استفراغ الوسع.
    ومخطئ غير معذور ولا مأجور، ولكن في جناح وإثم، وهو من تعمد القول بما صح عنده الخطأ فيه، أو بما لم يقم عنده دليل باجتهاده على أنه حق عنده قلـت: ويُثبّت هذا قولهُ من حديث عمرو بن العاص: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران. وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))(12).
    قال ابن القيم رحمه الله عند شرحه لحديث بريدة الذي هو في صحيح مسلم ( رقم 1731 ) عند قوله صلى الله عليه وسلم ((فلا تنـزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟))
    ((والحديث صريح في أن حكم الله سبحانه في الحادثة واحد معين، وأن المجتهد يصيبه تارة ويخطئه تارة، وقد نص الأئمة الأربعة على ذلك صريحاً))(13)
    قال أبو عمر يوسف بن عبد البر: ((.. ولا أعلم خلافاً بين الحذاق من شيوخ المالكيين ونظرائهم من البغداديين مثل إسماعيل بن إسحاق القاضي، وابن بكير، وأبي العباس الطيالسي، ومن دونهم مثل شيخنا عمر بن محمد بن أبي الفرج المالكي. وأبي الطيب محمد بن محمد بن إسحاق بن راهويه وأبي الحسن بن المنتاب وغيرهم من الشيوخ البغداديين والمصريين المالكيين، كلُُ يحكي أن مذهب مالك رحمه الله في اجتهاد المجتهدين والقياسيين إذا اختلفوا فيما يجوز فيه التأويل من نوازل الأحكام أن الحق من ذلك عند الله واحدُ من أقوالهم واختلافهم، إلاّ أن كل مجتهد إذا اجتهد كما أمر وبالغ ولم يأل وكان من أهل الصناعة ومعه آلة الاجتهاد فقد أدّى ما عليه، وليس عليه غير ذلك، وهو مأجور على قصده الصواب وإن كان الحق عند الله من ذلك واحد.
    قال: وهذا القول هو الذي عليه عمل أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله.
    قال: وهو المشهور من قول أبي حنيفة رحمه الله فيما حكاه محمد بن الحسن وأبو يوسف، وفيما حكاه الحذاق من أصحابهم مثل عيسى بن أبان ومحمد بن شجاع البلخي، و من تأخر عنهم مثل أبي سعيد البرذعي، ويحي بن سعيد الجرجاني، وشيخنا أبي الحسن الكرخي، وأبي بكر البخاري المعروف بـ"حد الجسم " وغيرهم ممن رأينا وشاهدنا وبالله التوفيق.))(14).
    ثم أفصح ابن عبد البر عن رأيه فقال: ((والذي أقول به إن المجتهد المخطئ لا يأثم إذا قصد الحق، وكان ممن له الاجتهاد، وأرجو أن يكون له في قصده الصواب، وأراد به له أجر واحد إذا صحّت نيته في ذلك والله أعلم)).
    قال ابن القيم: ((قال القاضي عبد الوهاب: وقد نص مالك على منع القول بإصابة كل مجتهد، فقال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله ورضي عنهم سعة إنما هو خطأ أو صواب.
    وسئل أيضا: ما تقولون في قول من يقول: إن كل واحد من المجتهدين مصيب لما كلف ؟ فقال: ما هذا هكذا، قولان مختلفان لا يكونان قط صوابا))(15).
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد ما ردّ على المجبرة من الجهمية والقدرية والمعتزلة بما يثلج الصدر: (( فالمجتهد المستدل _ من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك _ إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع. كان هذا هو الذي كلفّه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله البتة، خلافاً للجهمية المجبرة، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافاً للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم. بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب))(16).
    وأضيف قائلاً: إنّ الاجتهاد جائز وسائغ في المسائل العلمية والعملية ولم يُفرق الرعيلُ الأول بين الأصول والفروع على اصطلاح المتأخرين، بل قال شيخ الإسلام عن هذا التفريق إنّه وليد أهل البدع من المعتـزلة وأفراخهم. ثم انتقل هذا الوباء إلى أذهان من تكلم في أصول الفقه، وهو لا يعرف حقيقة التفريق ولا غوره، ولهذا سرده بعضهم في كتبه على وجه التسليم.
    مع أن هذا القول بدعة كما قال المحققون، فهو باطل عقلاً، فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقّوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين. بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة.
    1ـ فمنهم من قال: مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يُطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يُطلب فيها العمل . وهذا الفرق باطل:
    فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش.
    والمسائل العلمية ما لا يأثم المتنازع فيه، كتنازع الصحابة: هل رأى محمدربّه؟ وكتنازعهم في بعض النصوص هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات: هل هي من القرآن أم لا. وهكذا .. فالمسائل العملية فيها علم وعمل، فإذا كان الخطأ مغفوراً فيها، فالتي فيها علم بلا عمل أوْلى أن يكون الخطأ فيها مغفوراً.
    2 _ ومنهم من قال: المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي، والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي.
    وهذا الفرق خطأ أيضاً، فإن كثيراً من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها، وغيرهم لم يعرفها، وفيها ما هو قطعي بالإجماع، كتحريم المحرمات الظاهرة، ووجوب الواجبات الظاهرة، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقوم عليه الحجة، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر، منهم قدامة، ورأوا أنها حلال لهم، ولم يكفّرهم الصحابة حتى بينّوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا.
    وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولم يؤثمّهم النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن تكفيرهم، وخطؤهم قطعي. وكذلك أسامة بن زيد، وقد قتل الرجل المسلم وكان خطؤه قطعياً.
    وهكذا والتمثيل على ذلك يطول.
    فمن قال: إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم. فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين، ليس هو و صفاً للقول في نفسه، فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك قطعاً ولا ظنا، وقد يكون الإنسان ذكياً قوي الذهن سريع الإدراك علماً لا ظناً فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال.
    والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة مُلازمة للقول المتنازع فيه حتى يُقال: كل من خالفه قد خالف القطعي. بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد، وهذا ممّا يختلف فيه الناس، فَعُلِمَ أن هذا الفرق لا يَطّرد ولا ينعكس.
    3- ومنهم من فرّق بفرق ثالث، وقال: المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل.فكل مسألة علمية استقل العقل بإدراكها، فهي من المسائل الأصولية التي يكفر أو يفسّق مخالفها. والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع.
    قالوا: فالأول كمسائل الصفات والقدر، والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار.
    فيقال لهذا الصنف: ما ذكرتموه بالضد أولى، فإن الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل، فالكافر من جعله الله ورسوله كافراً، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقاً كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً،.. والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع.وأما الأمور التي يستقل بها العقل فمثل الأمور الطبيعية ؛ مثل كون هذا المرض ينفع فيه الدواء الفلاني، فإن مثل هذا يعُلم بالتجربة والقياس، وتقليد الأطباء الذين علموا ذلك بالقياس أو التجربة، وكذلك مسائل الحساب والهندسة ونحو ذلك ..إذا كان كذلك، فكون الرجل مؤمنا وكافراً وعدلاً وفاسقا هو من المسائل الشرعية لا من المسائل العقلية، فكيف يكون من خالف ما جاء به الرسول ليس كافراً، ومن خالف ما ادّعى غيره أنه معلومُُ بعقله كافراً ؟!
    وهل يكفر أحد بالخطأ في مسائل الحساب والطب ودقيق الكلام؟!
    فإن قيل: هؤلاء لا يكفرون كل من خالف مسألة عقلية، لكن يكفّرون من خالف المسائل العقلية التي يُعلم بها صدق الرسول، فإن العلم بصدق الرسول مبني عليها: على مسائل معينة، فإذا أخطأ فيها لم يكن عالماً بصدق الرسول فيكون كافراً.
    والجواب على هذا: أن تصديق الرسول ليس مبنياً على مسائل النـزاع، بل ما جعله أهل الكلام المحدَث أصلاً للعلم بصدق الرسول، كقول من قال من المعتـزلة والجهمية: إنه لا يُعلم صدق الرسول إلا بأن يُعلم أن العالم حادث، ولا يُعلم ذلك إلا بأن يُعلم أن الأجسام محدثة، ولا يعلم ذلك إلا بالعلم بأنها لا تنفك من الحوادث .. ونحو ذلك من الأمور التي تـزعم طائفة من أهل الكلام أنها أصول لتصديق الرسول لا يُعلم صدقه بدونها، هي مما يُعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه لم يكن يجعل إيمان الناس موقوفاً عليها، بل ولا دعا الناس إليها، ولا ذكرت في كتاب ولا سنة، ولا ذكرها أحد من الصحابة، لكن الأصول التي بها يعلم صدق الرسول مذكورة في القرآن،وهي غير هذه.وحينئذ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يُقال: إنها أصول الدين:كفراً فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبُتدعة في الشرع هم أحق باسم الكفر لا من خالفهم، وإن لم يكن الخطأ فيها كفراً، فلا يكفر من خالفهم فيها، فيثبت أنه ليس كفراً في حكم الله ورسوله على النقدين))(17).
    قلت وبالله التوفيق: بعد هذا النقل المحقق في منع التفريق بين الأصول والفروع في الاجتهاد، وأنّ كل ما أتى به علماء الكلام منقوض ولا يقوم له ساق. وكذلك قد مرّ بك أن الاجتهاد ضرورة كنظيره القياس، يتضح لك أن الاجتهاد يكون في دقائق الأمور من المسائل التي تخفى على الناظر لا في جليّها قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((.. لا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمـة))(18). ألحق هذا بـما جاء في كتابي وقفات منهجية في الذب عن السلفية تكتمل عندك المسألة، أضف إلى ذلك ما وقفت عليه من كلام نفيس لعلامة القصيم وسائر بلاد المسلمين الشيخ محمد بن صالح العثيمين عند شرحه لنظم الورقات في أصول الفقه لصاحبه شرف الدين يحي العمريطي فتتبع معي.
    قال العمـريطي:
    (ولينقسم إلى صواب وخطأ وقيل في الفروع يُمنع الخطأ).
    قال العلامة ابن العثيمين:
    أي إنّ الاجتهاد يكون صواباً، ويكون خطأً، والمراد بذلك: الحكم الناتج عن الاجتهاد، وليس الاجتهاد، فالاجتهاد كله صواب . وإنما الحكم الناتج عنه ينقسم إلى صواب وخطأ.
    فالخطأ : مخالفة الصواب، والصواب إصابة الصواب.
    وأسباب الخطأ كثيرة:
    منها: نقص العلم، فكأن لا يكون عند الإنسان علم واسع فيجتهد بما عنده من النصوص ويكون هناك نصوص أخرى قد فاتته لا يدركها فيخطئ.
    وقد يكون من قصور الفهم: أي أن عنده علم، فيحفظ القرآن والتفسير والأحاديث لكن فهمه رديء، فإنه يخطئ، فإن كان ناقص العلم قاصر الفهم فهو أقرب إلى الخطأ من غيره.
    وقد يكون الخطأ لسوء القصد والنية، وذلك بأن لا يكون مراد الإنسان إلا أن يغلب غيره، وقول غيره، لا أن يصل إلى الصواب. وينتصر لنفسه لا للحق، فهو يُحرم الصواب، لذا لا بد من تحسين النية وإخلاصها بأن يكون قصدك في الاجتهاد الوصول إلى الحق لا أن تنتصر لنفسك، فإنك إن أردت الثاني حرمت الأول، وهو الوصول إلى الحق.
    وقد يكون سبب الخطأ المعاصي، لقوله تعالى:  يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا. فإذا لم يكن هناك تقوى فلا يوجد الفرقان، لذا يجد المتقي في قلبه نوراً يستضئ به، وقد لا يكون عنده علم بالشرع في مسألة، فيجتهد فإذا هو مصيب للحق، لأن التقوى توجب الفرقان والفرقان هو الفرق بين الحق والباطل، وبين الخطأ والصواب، هذه أربعة موانع تمنع من الإصابة، وقد تكون هناك موانع أخرى ولكن هذا الذي حضرنـي. فكل إنسان يجتهد فإما أن يخطئ وإما أن يصيب.
    قوله ( وقيل في الفروع يمُنع الخطأ):
    قيل: هذه صيغة تضعيف.
    يمنع الخطأ: أي أن المجتهد في الفروع مصيب فيها في كل حال، وهذا القول يستحق أن يورد بصيغة التمريض، بل ينبغي أن يورد بصيغة الإماتة، بل ينبغي أن يورد بصيغة الدفن إلى أبد الآبدين، لأنه قول باطل.
    فكيف يكون قولان متضادان كلاهما صواب؟.
    لا يمكن! وهذا كما أنه مناف للعقل فهو مناف للشرع، أو للسمع على الأصح. قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر)).
    فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ كل حاكم يحكم فإنما هو إما مصيب وإما مخطئ، وجعل الخطأ قسيماً للإصابة، فحينئذ لا يمكن أن يكون كل مجتهد مصيباً أبداً بل المجتهد إما مصيب وإما مخطئ في الأصول والفروع.
    ثم إن كلمة الفروع والأصول: أي تقسيم الدين إلى أصول وفروع بدعة، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: ((إن هذا التقسيم حدث في القرن الثالث)) أظن ذلك، فهو بدعة، ويدل على أن هذا قول ليس بصحيح، وهو تقسيم الدين إلى أصول وفروع: أنهم جعلوا من الفروع: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، مع أن النبي جعلها أركان الإسلام وأصولاً، وهم يرون أنها فروع.
    ثم إنهم يذكرون أشياء يرونها من الأصول وهي من الفروع، أقصد ليست ذات أصل.
    مثلاً: عذاب القبر، هل هو على الروح أم على البدن أم عليهما جميعاً؟ فالعذاب من الأصول وهو عقيدة، ولكن على هذا أو على هذا فهو شيء آخر، ويجعلون هذا من الأصول، لذلك نقول: أصل تقسيم الدين إلى أصول وفروع لا صحة له، وليس معروفاً في الكتاب والسنة ولا أقوال الصحابة والتابعين، ولكن تنـزلاً مع الذين يقولون بذلك نقول: إن الإنسان يكون مُخطئاً أو مصيباً في الأصول والفروع على حد سواء، قد يصيب وقد يخطئ.
    قال العمريطي:
    (وفي أصول الدين ذا الوجه امتنع إذ فيه تصويب لأرباب البدع)
    "ذا الوجه امتنع" : أي امتنع أن نقول في أصول الدين: إن المجتهد مخطئ ومصيب.
    "إذْ فيه تصويب لأرباب البدع " : هذه هي العلة، فلا نقول في أصول الدين، إن المجتهد يكون مصيباً ويكون مُخطئاً، لأنك لو قلت هذا لقال أهل البدع إنهم مجتهدون وإنهم مصيبون.
    فنقول له: هذا أيضاً خطأ، فكل إنسان يحكم بشيء من أصول الدين (كما قلتم) أو فروعه فإنه إما مصيب وإما مخطئ، ولا يكون في هذا تصويب لأرباب البدع، لأن أرباب البدع لم يجتهدوا، ولو اجتهدوا حقا لتبين لهم الحق، لكنهم يستعرضون القرآن والسنة بناءً على عقائدهم، فيلوون أعناق نصوص الكتاب والسنة إلى مذاهبهم، فهم لم يجتهدوا، وإنما المجتهد هو من كان متجرداً من الهوى، لا يريد إلا ما دلّ عليه القرآن والسنة، وأهل البدع لا يريدون ذلك، وإنما هم يعتقدون أولاً ثم يستدلون ثانياً، وإذا كان الدليل يخالف ما هم عليه يلوون عنقه، فإن لم يلتو كسروه، فكيف نقول إننا إذا قسمنا الاجتهاد إلى صواب وخطأ (في الأصول) أن ذلك يكون تصويباً لأرباب البدع، أبدا. لأنهم لم يجتهدوا أصلاً وإنما حكموا عقولهم، وقالوا ينبغي أن تحول النصوص وتحال إلى ما دلّ عليه العقل.
    فمن أصولهم أنه لا يثبت من صفات الله إلا ما دل عليه العقل. وقيل يجب أن ينفي كل ما نفاه العقل، ويتوقف في كل ما لم يقتض العقل إثباته ولا نفيه.
    فالتعليل عليل في قوله ((فيه تصويب لأرباب البدع)). فهذا التعليل ليس بقائم إطلاقاً، لأننا نرده بكلمة واحدة وهي: أنهم لم يجتهدوا، ولو اجتهدوا لكانوا مثلنا ، لأننا بشر وهم بشر.
    قال العمريطي:
    (من النصارى حيث كفراً ثلثـوا والزاعمين أنهم لم يُبعثــوا)
    أيضاً نصوّب النصارى إذا قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، كيف يكون ذلك ؟
    لأننا لو قلنا : إن الاجتهاد في العقائد يلزمنا أن نصوّب النصارى.
    فنحن نقـول: هل يمكن لأحد أن يقول إنّ النصارى مجتهدون في التثليث؟ أبداً، لم يجتهدوا، فهذا عيسى بن مريم عليه السلام يقول الله له يوم القيامة
    وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتحذوني وأمي إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ، إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربّكم.
    هذا نص من عيسى بن مريم الذي هو رسولهم أنه لم يقل لهم إلا كلمة الإخلاص، وأن اعبدوا الله ربي وربكم، فكيف يُقال: إنهم إذا قالوا إن الله ثالث ثلاثة إنهم مجتهدون؟
    أين الاجتهاد؟
    فنقول للمؤلف رحمه الله -: إنّ هذا التعليل الذي عللت به غير وارد، وغير صحيح، فلم يجتهدوا، ولو اجتهدوا لعلموا أنه لا إله إلا الله.
    (( والزاعمين أنهم لن يبعثوا )): الذين أنكروا البعث، هل يمكن القول بأنهم مجتهدون؟ أبداً. فالقرآن مملوء بإثبات البعث بالطرق السمعية والحسية والعقلية، فكيف نقول عن منكر البعث إنه مجتهد؟
    قال الله تعالى:  وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة. فالذي أنشأها أول مرة هو الله، والذي أنشأ قادر على الإعادة لقوله سبحانه:  وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.
    إذن يكون هذا الإلزام من المؤلف رحمه الله إلزاماً باطلاً.
    قال العمريطـي .
    (أولا يـرون ربـهم بالعـين - كذا المـجوس في ادعا الأصلين).
    الذين قالوا إنّ الله لا يرى بالعين كالأشاعرة وغيرهم، يقول: إنـهم مجتهدون. فيكون قولهم إنّ الله لا يرى بالعين اجتهدوا به، فقد يصيبون وقد يخطئون، فيقال: هؤلاء لم يجتهدوا أبداً، ولو اجتهدوا لعلموا علم اليقين أن الله يرى بالعين المجردة. ولا أصرح ولا أوضح ولا أبين من قول النبي  (( إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر، أو كما ترون الشمس ليس دونـها سحاب ))(19).
    فلو أراد أحد أن يبين أو يصرح مثل هذا التصريح لم يجد إلى ذلك سبيلا.
    فمن قال: إن الله لا يرى بالعين، لم يجتهد وهذا النص موجود، لذا ذهب بعض السلف إلى أن من أنكر رؤية الله بالعين فهو كافر، خارج عن الملّة لأنه مكذب، والنص لا يحتمل التأويل، وتأويل مالا يحتمل التأويل هو النفي ذاته، أرأيت لو أن أحداً جاء إليك بخبزة، وقال: سمّ الله وكُلْ، فأخرجت القلم وقلت هذه ورقة لا خبزة، فهذا التأويل لا يصح لأنه لا احتمال فيه ولا واحد بالمليون.
    فإذا كان النبي صلى الله عليه سلم يقول:(( إنكم سترون ربكم عياناً)) فلا يمكن أن يُأوّل هذا، وتأويله إنكارهُ، ومن ثَمّ بعضُ السلف كفروا من أنكر الرؤية.
    (( وكذا المجوس في ادعا الأصلين )).
    لو قلنا: إن الاجتهاد يكون صواباً وخطأً في الأصول لزم أن يكون قول المجوس في الأصلين يحتمل الخطأ والصواب، هذا على قول المؤلف.
    والأصلان عند المجوس: النور والظلمة، فهم يعتقدون أن النور خالق الخير والظلام خالق الشر، وهذا واضح البطلان، لأننا نجد أحياناً الخير الكثير في الليل ولا نجد الخير في النهار، وفي هذا يقول المتنبي:
    وكم لظلام الليل عندك من يـد - تحـدث أن المانوية تكـذب.
    والمانوية هم الذين يقولون أن الظلمة لا تأتي إلا بالشر، يقول: أنت تُعطي العطايا في الليل دليل على أن المانوية كاذبة.
    وهل يمكن أن يكون المجوس الذين يقولون: إن النور إله الخير، والظلمة إله الشر، قولهم يحتمل الصواب والخطأ ؟ أبداً.
    وهم لم يجتهدوا أصلاً، والخطأ والصواب إنما قسمان عن الاجتهاد، والمجوس لم يجتهدوا ليوصلهم اجتهادهم إلى هذا.
    عباد البقر، يرون البقرة ويقولون هذه إلهنا، ويتبركون ببولها وروثها، فهل نقول هؤلاء إما مصيبون وإما مخطئون؟.
    لا لأنهم لم يجتهدوا، لو نظروا أدنى نظر لعلموا أن البقر لا يصح أن تكون إلهاً. فتعليل المؤلف رحمه الله تعليل عليل.
    وعلى هذا فإن الاجتهاد يكون فيما يدعى أنه من أصول الدين أو من فروع الدين، ويكون في كل شئ، لكن الشأن كل الشأن، هل أنت اجتهدت أم لا؟))(20)
    ========================
    (1) انظر لسان العرب مادة ( جهد ) والمصباح المنير وأدب الكاتب ( ص 308) لابن قتيبة.
    (2) الإحكام ( 8 / 133 ) لابن حزم.
    (3) إرشاد الفحول ( 2 / 297 ).
    (4) يلاحظ طالب العلم أن الاستدلال بالأصول في النوازل وظيفة المجتهد. أما في المسائل التي درج عليها السلف فلا بد من فهم السلف مع القواعد ولو كان المستدل مجتهداً، ولهذا يخطئ من يغفل فهم السلف للنصوص بالاكتفاء بالقواعد مع أنه قاصر الفهم والاطلاع وليس من أهل الاجتهاد، وهو ما وعدت بتحريره، مع نصيحة ثمينة لبعض طلبة العلم الذين سلكوا منهج الظاهرية بلسان حالهم، وإن نفوا ذلك بمقالهم. واتخذوا فهم السلف ورائهم ظهريا.
    (5) إعلام الموقعين ( 4 / 216 ط دار الفكر ) .
    (6) أحكام أهل الذمة ( 1/114 ط رمادي للنشر ).
    (7) صحيح: أخرجه البخاري ( رقم 2671-2747-5306 ) . والترمذي
    (3179 ) وغيرهما.
    (8) إعلام الموقعين ( 2 / 262 ط دار الفكر ) .
    (9) صحيح : أخرجه مسلم ( 1493 ) .
    (10) صحيح: أخرجه مسلم ( رقم 1328 ) .
    (11) إعلام الموقعين ( 2/265ط دار الفكر ) .
    (12) صحيح أخرجه البخاري ( برقم 7352 ) ومسلم ( برقم 1716 ) .
    (13) أحكام أهل الذمة ( 1/ 116 ط رمادي للنشر ) .
    (14) جامع بيان العلم وفضله ( 2/ 885 ط الزهيري ) .
    (15) أحكام أهل الذمة ( 1 / 118 ) وجامع بيان العلم وفضله ( 2 / 922) انظر جذوة المقتبسين (ص 84 ) للحميدي .
    (16) منهاج السنة لابن تيمية ( 5 / 111 ) .
    (17) منهاج السنة (5/87-95) بشيء من التصرف.
    (18) مجموع الفتاوى ( 20/ 165 ). وراجع كتابنا وقفات منهجية ( ص 58 ).
    (19)وهذا الكلام ينطبق مع القاعدة السالفة الذكر لا اجتهاد مع النـص.
    (20)الدرس رقم ( 30 ) في يوم الاثنين 29/3/ 1415هـ.
    الشيخ عبدالحميد العربي الجزائري
     
  2. ايناس

    ايناس عضو وفيّ

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
    موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .
     
  3. القلب السعيد

    القلب السعيد عضو وفيّ

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
     
  4. محمد رياض

    محمد رياض عضو جديد

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
     
  5. الأندلسي

    الأندلسي غفر الله له ولوالديه طاقم الإدارة

    بارك الله فيكم جميعا

    أثابكم الله
     

مشاركة هذه الصفحة