العلامة الألباني ومنهجه السلفي في فهم النصوص- عبد الحميد العربي الجزائري

الموضوع في 'المنبر الإسلامي العام' بواسطة الأندلسي, بتاريخ ‏18 ديسمبر 2009.

  1. الأندلسي

    الأندلسي غفر الله له ولوالديه طاقم الإدارة

    العلامة الألباني ومنهجه السلفي في فهم النصوص

    عبد الحميد العربي الجزائري


    الحمد لله ربّ العلمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    آثرت نشر منهج العلامة الألباني في فهم النصوص تنبيهاً لبعض من يقول نحن على منهج الألباني سائرون بألسنتهم وواقعهم يدل على خلافه، كما هو حال محمد إبراهيم شقرة، الذي قلب ظهر المجن للعلامة الألباني، وناصر وقدم لمن غمز عقيدته ومنهجه، وعدنان عرعور، وأحمد سلام، وبعض من ينتسب لأهل الحديث من أهل الهند. وذلك أنني ناقشت بعضهم، فاتضح لي من أسلوب حوارهم أنهم إلى الآن لم يفهموا المنهج الذي سلكه العلامة الألباني مدة تزيد على نصف قرن من الزمن، وهو حتماً كان رحمه الله على منهج أسلافه الأوائل، منهج الصحابة والتابعين ومن كان على سكيكتهم من علماء الأثر، وما كان العلاّمة الألباني بدعاً من العلماء. بل هو جزاه الله خيراً ورحمه الله وأعظم مثوبته ُموصِل الخلف بالسلف، من المصلحين الأخيار أولي الحكمة والأبصار الذين اعتنوا بالفقه والحديث، وأتقنوا الاستنباط، ورصَدوا النوازل والواقعات. وكان منهجه رحمه الله إرجاع الأقاويل إلى القسطاس المستقيم والإذعان للدليل، فكان في دأبه كما قيل((سير السّواني سفر لا ينقطع)).


    فتيـة لم تلدْ سواهـا المعــالي ===== والمعـالـي قليلـة الأولاد.


    ثانيــاً:

    تبرئة لساحة العلامة الألباني رحمه الله من فكر هؤلاء المتفلتين والمتطاولين، من المختلطين، والقطبيين عند العام والخاص.

    لقد رأينا وسمعنا كثيرا من هذا الصنف يتكلم على أساس أنه من طلاب الألباني، فإذا شرع في التأصيل العلمي رمى منهج الألباني وراء ظهره ثم كشف النقاب وعن منهجي الخلفي بطريقة ملتوية، وعن ظاهريته العصرية، وياليتها ظاهرية كظاهرية ابن حزم المبْنِيّة على العلم والنقل، إذن لهان الخطب وقلّ الشر والشذوذ، لكن هي أسوء بكثير.لأنها ظاهرية مصحوبة بجهل فظيع بمقاصد الشريعة وأقوال المتقدمين، مع جرأة مفرطة على الفتوى يصحبها تجهيل للعلماء سواء منهم المتوفى أو المتبقي، حتى صار فقه العلامة ابن باز، وابن العثيمين، وعبد المحسن العباد، وربيع بن هادي المدخلي، وبقية إخوانهم من العلماء لا يساوي ثمن خُفي حنين عند هؤلاء المتطاولين والمختلطين، والله المستعان وهو القامع لكل معاند خوّان.

    ودونك يا طالب الحق منهج الألباني في فهم النصوص في أسطر موجزة جدا، وإذا وفق الله تعالى فسأفرد له جزء خاصا، والله يعلم المفسد من المصلح.

    المسألة الأولى :

    قال العلامة الألباني في الضعيفة( 5/375 رقم 2355 )حين ضعّفَ الحديث الذي متنه((خُذْ من لحيتك ورأسك)):

    ((واعلم أنّه لم يثبت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ من اللحيّة، لا قولاً كهذا، ولا فعلاً كالحديث المتقدم برقم (288 ).

    نعم ثبت عن بعض السلف، وإليك المتيسر منها .

    عن مروان بن سالم المقفع قال: (رأيت ابن عمر يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف).

    رواه أبو داوّد وغيره بسند حسن كما بيّنته في "الإرواء" (920)، وصحيح أبي داود ( 2041 ).

    2- عن نافع:((أن عبد الله كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً حتى يحج)).

    وفي رواية:((أنّ عبد الله بن عمر كان إذا حَلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه)). أخرجه مالك في" الموطأ"( 1/353 ) .وروى الخلال في "الترجل"( ص 11المصورة) بسند صحيح عن مجاهد قال:((رأيت ابن عمر قبض على لحيته يوم النحر، ثم قال للحجّام:خُذّ ما تحت القبضة)).

    قال الباجي في "شرح الموطأ "( 3/32 ):((يريد أنه كان يقُصّ منها مع حلق رأسه،وقد استحبّ ذلك مالك رحمه الله، لأن الأخذ منها على وجه لا يُغيّر الخلقة من الجمال، والاستئصال لهما مُثلة)).

    3-عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:)وليقضوا تفثهم:)

    ((التّفث:حلق الرأس،وأخذ الشاربين،ونتف الإبط وحلق العانة،وقص الأظافر،والأخذ من العارضين(وفي رواية:اللحية)ورمي الجمار، والموقف بعرفة والمزدلفة) رواه ابن أبي شيبة(4/85) وابن جرير في التفسير(17/109).

    4-عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية:)ثم ليقضوا تفثهم(،فذكر نحوه بتقديم وتأخير، وفيه:((وأخذ من الشاربين واللحية)).

    رواه ابن جرير أيضاً، وإسناده صحيح، أو حسن على الأقل.

    [ثم ذكر الشيخ آثاراً طيبة واضحة أخرى وقال بعدها]:

    ((قلت:وفي هذه الآثار الصحيحة ما يدلُّ على أنّ قصّ اللّحية، أو الأخذ منها كان أمراً معروفاً عند السّلف، خلافاً لظنّ بعض إخواننا من أهل الحديث الذين يَتَشدّدون في الأخذ منها، متّمسكين بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:((وأعفوا اللّحى))، غير منتبهين لما فهموه من العموم أنه غير مراد لعدم جريان عمل السلف عليه، وفيهم من روى العموم المذكور،وهم عبد الله بن عمر،وحديثه في"الصحيحين"وأبو هريرة،وحديثه عند مسلم، وهما مخرجان في "جلباب المرأة المسلمة" (ص185-187 ط المكتبة الإسلامية )، وابن عباس، وحديثه في "مجمع الزوائد (5/169 )".

    ومما لا شك فيه أن راوي الحديث أعرف بالمراد منه من الذين لـم يسمعوه من النبي e، وأحرص على اتّباعه منهم، وهذا على فرض أن المراد بـ(الإعفاء ) التوفير والتكثير كما هو مشهور، لكن قال الباجي في "شرح الموطأ "( 7/ 266 ) نقلاً عن القاضي أبي الولي: ((ويُحتمل عندي أن يريد أن تُعفي اللحى من الإحفاء، لأنّ كثرتـها أيضاً ليس بمأمور بتركه، وقد روى ابن القاسم عن مالك:لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية وشذّ. قيل لمالك:فإذا طالت جداً؟ قال:أرى أن يؤخذ منها وتُقصّ.وروي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أنـهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل من القبضة)).

    قلـت:أخرج عنهما الخلال في "الترجل"(ص 11-مصورة) بإسنادين صحيحين، وروي عن الإمام أحمد أنه سُئل عن الأخذ من اللحية؟ قال : كان ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة، وكأنه ذهب إليه.قال حرب:قلت له:ما الإعفاء؟ قال: يروى عن النبي e قال: كان هذا عنده الإعفاء).

    قلت:ومن المعلوم أن الراوي أدرى بمرويِّه من غيره، ولا سيما إذا كان حريصاً على السنة كابن عمر، وهو يرى نبيه صلى الله عليه وسلم _ الآمر بالإعفاء _ ليلاً ونهاراً. فتأمل.

    ثم روى الخلال من طريق إسحاق قال:((سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال:يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة)).

    قلت: حديث النبي صلى الله عليه وسلم:((احفوا الشوارب، وأعفوا اللحى))؟ قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقه.ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها ومن تحت حلقه)).

    قلت: لقد توسعت قليلاً بذكر هذه النصوص عن بعض السلف والأئمة؛ لعزتـها،ولظن الكثير من الناس أنها مخالفة لعموم (وأعفوا اللّحى) ولم ينتبهوا لقاعدة أن الفرد من أفراد العموم إذا لم يجر العمل به، دليل على أنه غير مراد منه، وما أكثر البدع التي يسميها الإمام الشاطبي بـ(البدعة الإضافية) إلا مِنْ هذا القبيل، ومع ذلك فهي عند أهل العلم مردودة، لأنـها لم تكن من عمل السلف وهم أتقى وأعلم من الخلف، فيرجى الانتباه لهذا . فإن الأمر دقيق ومهم )). انتهى كلام العلامة الألباني.

    قال راقمه:صدق رحمه الله، فإن الأمر دقيق ومهم.فانتبهوا يا طلاب العلم.


    المسألة الثانية:


    قال العلامة الألباني عن الحديث الذي أخرجه مسلم ((دخلت العمرة في الحج لأبد أبد)) ما يلي: ((الحديث جعل العمرة في الحج من الحج، فهو يشعر أن العمرة في الحج جزء لا يتجزأ، أي إنها ركن في الحج، ولولا أنني لا أعلم أحدا تمسك بظاهر الدلالة لقلت بها، لكن لا أحد سبقني، فأقول إنها واجب فيه لا أقل من ذلك وقد سبقنا بذلك كثير من كبار العلماء من الصحابة وغيرهم))اهـ.راجع أشرطة شرح العلامة الألباني للترغيب والترهيب للمنذري.


    المسألة الثالثة:


    وقال مـحدث الشام،-بل والدنيا بأكملها- حين كان يجيب عن أسئلة بعض الطلاب، وكان الحوار يدور حول حكم قضاء صلاة الوتر بعد خروج وقتها، فقال الشيخ رحمه للطالب:((أنت حنبلي)، فقال الطالب: ( لكني مع الدليل)، فقال الشيخ رحمه الله:(أنا ما اتهمتك) ثم قال رحمه الله: (أنت تجمع الآن بين شيئين، وهذا واجب كل طالب؛ أن يكون حنبليا مع طلب الدليل،وأن يكون حنفيا مع طلب الدليل، وأن يكون مالكيا مع طلب الدليل، وأن يكون شافعيا مع طلب الدليل، وليس كما يتوهم كثير من إخواننا السلفيين الهوج؛ الهوج:أنه إيش يا أخي حنفي، شافعي، مالكي، .. إلخ، قال الله قال رسول الله؛ قال الله قال رسول الله يحتاج إلى تهيئ لذلك.. إذا هناك جو يشبه جو السلف لا مذهبية هناك، إنما قال الله قال رسول الله، ما يجوز أن هذا حنفي، شافعي، مالكي، حنبلي أبدا، ولكن الواقع أن هذا المجتمع مفقود غير موجود... إذا أنا أفهم أنك أنت وغيرك حنبلي المذهب، ولا مشاحة في ذلك، ولما قلت لك أنت حنبلي: ليش عيّرت نفسك بهذه النسبة، هذا واجبك، لكن إذا كنت حنبليا مقلدا تقليدا أعمى على خلاف الدليل هنا يأتي الانتقاد..)) [راجع الشريط رقم296 من سلسلة الهدى والنور].


    المسألة الرابعة:


    قال العلامة الألباني رحمه الله في الثمر المستطاب (2/628) عند شرحه لحديث جابر بن عبد الله(( كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة قال لي: ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين)) :«وظاهر الأمر يفيد وجوب صلاة القدوم من السفر في المسجد، لكني لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إليه، فإن وجد من قال به صرنا إليه، والله أعلم» رحم الله العلامة محمد ناصر الدين الألباني وجعل الجنة مثواه.


    المسألة الخامسة:

    قال الكاتب مشهور بن حسن آل سلمان في جزئه إعلام العابد (ص10) بالهامش: ((كان جواب شيخنا الألباني على سؤال له: لم الإقتصار على القول بكراهة الجماعة الثانية، وقد قامت الأدلة على منعها، والأصل في العبادات التوقيف، فما المانع من القول بحرمتها أو بدعتها؟ فقل حفظه الله: ما رأينا في ذلك لنا سلفا).

    تنبيه: لا يثبت في النهي عن الجماعة الثانية حديث صحيح كما هو مبسوط في غير هذا الباب.


    قاعدة عظيمة:


    و العلامة الألباني رحمه الله يُقسم المسائل إلى أصلين عظيمين:


    الأصل الأول:


    المسائل المستجدة التي يسميها بعض الفقهاء بالنوازل، فهذه قال في حقها العلامة الألباني:( لا بد للعالم حقاً أن يفتي بما عنده من علم بنصوص الكتاب والسنة والقواعد العلمية التي منها ينطلق المفتي)(1).


    الأصل الثاني:


    هي المسائل التي يقطع بأنها كانت واقعة في زمن السلف، والتي لا بد أن يكون للسلف في مثلها رأي وجواب، فهذه قال في حقها العلامة الألباني: (فهنا يجب على المسلم أن يتورع أن يبادر إلى تقديم رأيه بمثل تلك المسألة إلا أن يكون له فيها سلف، بهذا القيد أو التفصيل يمكن أن نعتبر كلمة الإمام أحمد هي في الحقيقة قيداً لكثير من طلاب العلم اليوم الذين يركبون رؤوسهم ويتسرعون في إصدار فتاوى،كما يصرح بعضهم قائلاً مستهتراً بأقوال من سبقوه: هم رجال ونحن رجال. لكن أين أنت وأين هم- ثم ذكر الشيخ بيتاً شعرياً ثم قال-:وهـذا من الغرور الذي أصاب كثيرا من طلاب العلم اليوم، لأن بعضهم كما ذكرت آنفاً يصرحون بهذا الكلام"هم رجال ونحن رجال" وبعضهم لسان حالهم هو هـذا. وقد يكون هذا الذي يدعي أو يقول هذا الكلام لم يؤت من العلم ولا قليلاً، وإنما عنده نتف من هنا وهناك، ومع ذلك فلسان حالهم كما يقولون عندنا في الشام:( يا أرض اشتدي ما أحد عليك قدي)(2).




    قال محرر هذه الورقات راجي عفو ربّ البريات:إن العلامة الألباني رحمه اللهُ يُبين أن ظاهر حديث جابر يفيد أن العمرة ركن في الحج، كما يدرك ذلك من كان مبتدءًا في علم أصول الفقه، ولكنه امتنع رحمه الله من تبني هذا الحكم، لأنه ما علم أحداً من السلف قال بـه وهذا هو الفقه السديد الذي دعا الناس إليه أكثر من نصف قرن، رحمه الله رحمة واسعة. وفَهْمُ العلامة الألباني يدُلك على أن مقولة الإمام أحمد (( إياك أن تقول في مسألة حكما ليس لك فيه إمام )) تشمل الأصل الثاني من المسألة الرابعة، وهذا خلاف ما نطق به بعض الأفاضل حين سأله شاب فقال في سؤاله:(( إذا جاء النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل لنا عن أحد من السلف القول بالتحريم، ولكن نُقل القول بالكراهة التنـزيهية، وهذا النهي صريح، فهل نقول بالتحريم)).

    فأجاب:((مما استفدناه من شيخكم [وذكر طالب علم من الهند يقيم في الإمارات] في زيارتنا له قبل سنة ونيّف أنه قال:تحمل كلمة الإمام أحمد:(إياك وكل قول ليس لك فيه إمام) على ما ليس فيه نص صريح، أما ما كان فيه نص صريح فهو قول إمام الأئمة، وليس يحتاج إلى أي شيء، طالما الأمر كما تقول:إنه نص صريح))(3).

    وعلى الجواب بعض المآخذات:

    1-أولاً:

    من أين لك حفظك الله ولمن نقلت عنه سدده الله أن كلمة الإمام أحمد تطبّق فيما لا نص فيه صريح، مع العلم أن بينك ومن نقلت عنه وبين الإمام أحمد مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل.

    فكان الأولى بك في هذه الحالة أن تنقل عن طلاب الإمام أحمد كأبي داود، وعبد الله بن أحمد، وصالح، وإسحاق بن إبراهيم النيسابوري، وغيرهم، أو عمن عرف بالاستقراء التام كالعلامة ابن تيمية، وابن القيم، أو ممن كان على منهجهما، ثم عجبت له كيف يترك علو الإسناد وينقل عن طالب علم لم يقم على قوله برهاناً، ولو نقل عن أمثال العلامة ابن باز، أو العلامة الألباني، أو العلامة ابن عثيمين، لهان الخطب، مع العلم أنه قد مرّ بك فهم الشيخ الألباني لمقولة الإمام أحمد(4) رحمه الله. ولم يفرق بين النص الصريح وغير الصريح وهي مقولة الصحابة والتابعين كما حرر ذلك ابن القيم في "الإعلام".

    2-ثانيـاً:

    السائل المحترم قال: لم ينقل عن السلف القول بالتحريم.


    ومعنى كلامه أن هذا الحكم لم يكن معروفا عندهم، بل هو ليس بحكم أصلاً ولا استنباطا، لأنـهم رحمهم الله ما فهموا من النص إلا مجرد الكراهة.

    أ فيعقل أن نظفر نحن المتأخرون بـهذا الحق المزعوم ويجهله السلف الكرام. الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بخير الناس.

    فعن أبي هريرة أنه قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ فقال:( أنا والذين على الأثر ثم الذين على الأثر)) ثم كأنه رفض من بقى)(5).

    فإن عثر من بقي على الحق وأخطأه السلف _وهذا محال_ فنحن السلف وخير القرون هم الخلف، ولا أظن عاقلاً يقول هذا فضلاً عن أن يَدين الله به، وقد مرّ بك قريباً كلامُ ابن القيم في في الحلقة السابقة فعليك به فإن فيه الهداية.

    3-ثالثـاً:

    أما قول المجيب (أما ما كان فيه نص صريح فهو قول إمام الأئمة وليس يحتاج إلى أي شيء طالما الأمر كما تقول: إنه نص صريح )اهـ.

    إن من الشروط التي يجب أن تكون في المفتي هي الفطنة، ولا أظن مسلماً يُخالف في هذا إذ الغفلة مذمومة.

    قال ابن القيم رحمه الله:( والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل إذا كان يجد السؤال محتملاً، وبالله التوفيق، فكثيراً ما يقع غلط المفتي في هذا القسم، فالمفتي ترد إليه المسائل في قوالب متنوعة جداً، فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال وإلا هلك وأهلك-وقال مبيناً حقيقة هذا المفتي- وتارة تورد عليه المسألة الباطلة في دين الله في قالب مزخرف، ولفظ حسن، فيبادر إلى تسويغها. وهي من أبطل الباطل، وتارة بالعكس، فلا إله إلا الله كم هاهنا من مزلة أقدام ومجال أوهام، وما دعا محق إلى حق إلا أخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الإنس في قلب تنفر عنه خفافيش البصائر وضعفاء العقول وهم أكثر الناس، وما حذر أحد من باطل إلا أخرجه الشيطان على لسان وليه من الإنس في قالب مزخرف يستخف به عقول ذلك الضرب من الناس، فيستجيبون له، وأكثر الناس نظرهم قاصر على الصوّر، لا يتجاوزونها إلى الحقائق، فهم محبوسون في سجن الألفاظ مقيدون بقيود العبارات)(6).

    ولهذا لو أصْغَى المفتي إلى السؤال جيداً لعلم أن النص الذي توهمه السائلُ غيرُ صريح، وأن السائل لا يفرق بين النص الصريح والظاهر.

    إذ لا يعقل أن يخالف السلف النص الصريح أو يسيئوا فهمه، ثم يفهمه السائل المحترم على الجادة !! فدلّ الأمرُ على أن هذا النص ليس صريحا، ودليل ذلك فهم السلف له فتنبه.

    ومنه كان على المفتي أن يطلب من السائل مثالاً حتى يدرك: هل يفرق السائل بين النص الصريح وغيره؟!

    وأما أن يجيب المفتي هكذا دون ضوابط فغير مُسلّم، لأنه دون أن يشعر قد أبخس السلف الفضلاء حقهم وأرضى السائل وثبت الخطأ في ذهنه، وليس في دين الله محاباة.

    4-رابعـاً:

    استدل المفتي في تتمة كلامه بعنوان رسالة للعلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله وجعل الجنة مثواه وهي: ((الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام )).

    ثم قال: ((الحديث حجة بنفسه، بمعنى : أنّه لا يحتاج إلى عاضد أو نصير، أليس كذلك يا شيخ-وهو أحد طلاب العلم -؟ فقال الطالب: نعم!!)).

    وهذا هو جواب المفتي، وفحواه: أيها السائل الكريم قل بالتحريم وخالف السلف في الحكم.

    أقول: غفر الله للمجيب، لو أنه تمعن في السؤال جيداً لما شطّ في جوابه، وكان يكفيه أن يقول للسائل: مادام أنّه لم ينُقل لنا عن أحد من السلف القول بالتحريم، فليسعك ما وسعهم، هُمُ القوم فالزم طريقهم وفهمهم وهذا هو الجواب السلفي الصحيح.

    قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: ((فاصبر نفسك على السُّنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف كما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم ))(7).

    ولكنّ المفتي فاجأنا بما لم يكن في الحسبان، وثبت الشبهة في ذهن السائل الحيران، وكل من سمع الشريط من بعيد أو دان، ثم بعد ذلك استدل لها بما هو غريب عن محل النـزاع وظاهره الذان.

    أما قولُك: الحديث حجة بنفسه؛ فهذا حق أبلج لا يخالفك فيه عاقل شمّ رائحة العلم، ناهيك عن سلفي متبع للأثر، ولكن السؤال يدور حول الفهم لا حول الحجة فتأمل.

    قال ابن القيم رحمه الله:(فالحجة هي الدليل العلمي الذي يعقله القلب وتسمعه الأذن)(8).

    ولهذا سمي العلامة الألباني كتابه السالف الذكر بهذا الاسم فتنبه.


    وإنما النـزاع واقع : بأي فهم تفهم الحجة ؟.


    هل بفهم السلف الفضلاء الذين زكاهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أم بفهم الخلف ومن أمثالهم السائل الحائر ومن كان على شاكلته؟.

    وكثيرا ما يحتج بعض طلاب العلم بمقولة للإمام الشافعي في الرسالة: (الحديث يثبت بنفسه لا بعمل غيره) دون فهم لمعناها، فأداهم سوء الفهم إلى طرح فهم السلف للنصوص، والتفرد بالرأي، مع أن الإمام الشافعي بريء من هذا المنهج المريج، وبرهان ذلك أن مقولة الإمام الشافعي وردت بعد أن ذكر أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة من الإبل، ثم وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ) فقال الإمام الشافعي بعده: (وفي هذا الحديث دلالتان: إحداهما قبول الخبر، والأخرى قبول الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمضِ عمل أحد من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا، ودلالة على أنه لو مضى عمل من أحد من الأئمة ثم وجد عن النبي e خبراً يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله e، ودلالة على أن حديث رسول الله e يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده)(9).

    فأين في نص الإمام الشافعي ما يذهب إليه بعض الطلاب من ردّ فهم السلف؟

    إنما يستفاد من هذا القول أن الحديث تثبت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا صح سنده وإن لم يعمل أحدُ بهذا الحديث، فالإمام الشافعي يتكلم عن ثبوت الحجة لا عن فهمها فتأمل يا طالب الحق فإن الأمر دقيق. مع العلم أن السلف إذا تنكبوا حديثا دلّ في الغالب على أنه معلول أو منسوخ كما قال العلائي وابن الملقن، زد على ذلك أن المنهج العملي الذي سلكه الشافعي في كتبه وبالأخص الأم يؤكد ما قلت.

    قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله:(...ولكن من ثبت عنده نص ولم يعلم قائلا به، وهو لا يدري: أجمع على نقيضه أم لا؟ فهو بمنزلة من رأى دليلا عارضه آخر وهو بعدُ لم يعلم رجحان أحدهما، فهذا يقف إلى أن يتبين له رجحان هذا أو هذا، فلا يقول قولا بلا علم، ولا يتبع نصا مع ظن نسخه وعدم نسخه سواء، لما عارضه عنده من نص آخر أو ظن إجماع، ولا عاما ظن تخصيصه وعدم تخصيصه عنده سواء، فلا بد أن يكون الدليل سالما عن المعارض المقاوم فيغلب على ظنه نفي المعارض المقاوم وإلا وقف)(10)

    قال الإمام الشافعي: ( إن الحجة في كتاب أو سنة أو أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو قول عامة المسلمين لم يختلفوا فيه أو قياس داخل في معنى بعض هذا..)(11).

    ثم تأمل منهج الإمام الشافعي عند اختلاف الصحابة؛ ( وقيل للشافعي: أرأيت أقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تفرقوا فيها؟ فقال: نصير منها إلى ما وافق الكتاب والسنة أو الإجماع، أو كان أصح في القياس )(12).

    قال الحافظ في الفتح [(كتاب الوضوء باب: الإستنثار في الوضوء)]: وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به، إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل قوي.فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت أنه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كله ابن المنذر) اهـ.

    وتأمل كلام الحافظ:أن عدم النقل عن السلف سماه دليلا قويا، مع صحة الحديث الآمر بالاستنشاق، وهو الذي يسميه علماؤنا بفهم السلف. مع غض النظر هل ما توصل إليه الشافعي صحيح أم لا فهذه مسألة أخرى، وإنما هدفنا من هذا الإيراد التأصيل والتقعيد لا التمثيل، فتنبه.

    هذا بإيجاز منهج الشافعي، ويأتي تحرير هذه المسألة في جزء خاص إن شاء الله.

    إذن فالفهم نعمة من نعم الله كما مرّ بك يخص به قوماً دون آخرين. قال تعالى: ) وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث، إذ نفشت فيه غنم القوم، وكنّا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان، وكلاً ءاتينا حكماً وعلماً (.

    قال ابن القيم رحمه الله:(فذكر هذين النبيين الكريمين، وأثنى عليهما بالعلم والحكم، وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة).

    ثم قال رحمه الله:

    ((فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه، يعرف به، ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه، وفهم أصل معناه )).

    وقال كذلك رحمه الله:

    ((فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتى عُدّ ألف بواحد، فانظر إلى فهم ابن عباس وقد سأله عمر ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سـورة)إذا جاء نصر الله والفتح(، وما خص به ابن عباس من فهمه منها أنها نعيُ الله سبحانه نبيّه إلى نفسه، وإعلامه بحضور أجله، وموافقة عمر له على ذلك وخفائه عن غيرهما من الصحابة، وابن عباس إذْ ذاك أحدثهم سنًّا، وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاص؟ ويدقّ هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس، فيحتاج مع النص إلى غيره، ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه، وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها))(13).

    فقول المفتي:(لا يحتاج النص إلى أي شيء) خطأ من أساسه.

    وفي كلام ابن القيم الأخير تصحيح لمقولة المفتي وعبرة للذاكرين.

    وأخيراً أختم قولي بهذه القاعدة الثمينة لابن القيم السلفي:


    ((فالاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الأفهام، لا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام))(14).




    الهامش:


    1هذه مرتبة أهل الاجتهاد كالعلامة ابن عثيمين، ومن كان مثله في العلم، ويخطئ من

    يجعلها لطلاب العلم القاصرين.

    (2) شريط رقم (653/1) بحضور الأخ / الشيخ على حسن الحلبي. وكلمة الإمام أحمد هي( إياك أن تقول في مسألة قولا ليس لك فيه إمام).


    (3) قال الإمام أحمد: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقتداء بهم ) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي رقم ( 317).

    (3) حسن: أخرجه أحمد في مسنده وصححه أحمد شاكر.

    (4) إعلام الموقعين ( 4/192).

    (5) صحيح أخرجه إسماعيل بن محمد الفضل في" الحجة في بيان المحجة ".

    (6) انظر مفتاح دار السعادة ( 1/453) تحقيق علي حسن الحلبي ).

    (7) الرسالة ( ص 422 تحقيق أحمد شاكر).

    8 انظر المجموع لابن تيمية(19/269). وقال رحمه الله:(وأما ردّ النص بمجرد العمل فهذا باطل عند جماهير العلماء)، فعلى الطالب النبيه أن يفرق بين الردّ والتوقف، فالتوقف بشروطه مشروع وردّ النص ممنوع، والله أسأل الفقه في الدين والهداية والتمكين.

    (9) الأم (2/31 ط دار الفكر ).

    (10) الرسالة ( ص 596 ـ 597).

    (11)مدارج السالكين( 1/64 مرتبة الفهم ).وأصحاب الفهم هم أهل القرون الثلاثة فتنبه.

    (12) مفتاح دار السعادة ( 3/383 تحقيق علي حسن الحلبي حفظه الله).
     

مشاركة هذه الصفحة